بين الفكر والسياسة: كيف يترجم منصور عباس رؤية سالم جبران إلى واقع عملي؟
في ظل تحديات المجتمع العربي داخل إسرائيل، يفتح التحليل المقارن بين مسار فكر سالم جبران وتجربة السياسي البراغماتي منصور عباس بابًا لفهم كيف يمكن ترجمة الأفكار إلى عمل ملموس، بعيدًا عن الشعارات والانقسامات.
منير قبطي - صورة شخصية
في ظل التحديات السياسية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع العربي داخل إسرائيل، يبرز منصور عباس كشخصية سياسية جدلية تمزج بين البراغماتية والواقعية، محاولًا ترجمة خطاب الحقوق إلى سياسات عملية. وبينما يُنظر إليه من قبل البعض كصوت جديد يسعى لتغيير قواعد اللعبة السياسية، يرى فيه آخرون نموذجًا لمقاربة قد تحمل مخاطر على الثوابت الوطنية. ورغم التباين في المواقف تجاهه، فإن تجربته السياسية تفتح بابًا مهمًا للنقاش حول جدوى العمل الواقعي كوسيلة لتحقيق المصلحة العامة.
الراحل سالم جبران (1941–2011) من شفاعمرو، كان من أبرز الأصوات الفكرية والأدبية التي حاولت الجمع بين الالتزام القومي والانفتاح الإنساني. شغل منصب رئيس تحرير صحيفة “الأهالي”، ودعا في كتاباته إلى تجاوز الشعارات الفارغة نحو عمل منظم وعقلاني. في مقالته “متى ننتقل من صراخ الشعارات إلى العمل النشيط والعقلاني؟” المنشورة في موقع دنيا الوطن عام 2009، وجّه جبران نقدًا لاذعًا للخطاب العربي الداخلي، معتبرًا أن القومية اللفظية تحولت إلى غطاء لعجزنا عن الفعل الحقيقي.
رأى جبران أن الوطنية ليست في رفع الشعارات، بل في القدرة على تحويل الوعي إلى مبادرات، والعواطف إلى خطط عمل. وحذّر من القطيعة التامة مع القوى الديمقراطية اليهودية، مؤكدًا أن بناء شراكات إنسانية قائمة على المساواة لا يتناقض مع الانتماء القومي، بل يعززه ويمنحه بعدًا واقعيًا. كانت رسالته الأخيرة بمثابة نداء إلى القيادات العربية: الكرامة لا تتحقق بالرفض وحده، بل بالقدرة على التأثير داخل منظومة الواقع القائم.
"نهج المشاركة السياسية والتأثير من داخل الائتلافات الحكومية"
ومع ذلك، فإن هذا النهج البراغماتي لا يحظى بالإجماع داخل الأوساط الفكرية والسياسية العربية. فالباحث والمحلل السياسي عزمي بشارة كان يقدّر أهمية العمل العقلاني، لكنه انتقد الانخراط السياسي المباشر داخل النظام الإسرائيلي إذا كان على حساب المطالب الوطنية الأساسية. من منظوره، التحالفات الفردية والمقايضات السياسية قد تؤدي إلى تخفيف الضغط الجماعي على الدولة الإسرائيلية لتقديم حلول عادلة، وبالتالي فقد تُعتبر خطوة براغماتية على حساب حقوق المجتمع العربي ككل. هذا النقد يوضح أن النهج البراغماتي لعباس، رغم تحقيقه نتائج ملموسة، ليس خاليًا من الجدل، ويضعنا أمام سؤال مركزي: كيف نوازن بين الفعالية العملية والحفاظ على الحقوق والمبادئ الوطنية؟
بعد أكثر من عقد على رحيل جبران، نجد أصداء فكره في تجربة منصور عباس، رئيس القائمة العربية الموحدة، الذي يتبنى نهج المشاركة السياسية والتأثير من داخل الائتلافات الحكومية، ساعيًا لتحصيل مكاسب ملموسة في مجالات التعليم والبنى التحتية والإسكان. هذا التوجه أثار جدلاً واسعًا، بين من يعتبره خطوة جريئة نحو الواقعية السياسية، ومن يرى فيه انزلاقًا نحو التطبيع مع منظومة التمييز.
ورغم هذا الجدل، يمكن القول إن كلاً من جبران وعباس التقيا من موقعين مختلفين عند فكرة مركزية واحدة: أن المصلحة العامة للمجتمع العربي تتطلب الانتقال من دائرة الشعارات إلى ميدان الفعل، ومن خطاب المعارضة المطلقة إلى ممارسة التأثير الواقعي. جبران عبّر عن هذه الرؤية من موقع المفكر والمثقف، بينما حاول عباس تجسيدها في الميدان السياسي.
هذا التقاطع بين الفكر النقدي والعمل البراغماتي يعكس معضلة المجتمع العربي في الداخل: كيف يمكن التوفيق بين الثوابت الوطنية ومتطلبات الحياة اليومية؟ وبين الحفاظ على الهوية والسعي للاندماج الفاعل؟ ربما لا يحمل أيٌّ من النموذجين إجابة كاملة، لكن الحوار بينهما ولو عبر الزمن يكشف أن الطريق إلى المصلحة العامة يبدأ دائمًا من التفكير الهادئ والعمل المسؤول، لا من الشعارات ولا من الانفعال.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il
من هنا وهناك
-
مقال: ‘وقف إطلاق النار، كذب ونظرية جنون‘ - بقلم : أسامة خليفة
-
مقال: التسويق الإلكتروني وأهميته ودوره في نجاح وكالات السياحة العلاجية - بقلم : اراس كاراجان
-
‘رسالة الى الشباب في البطوف وعموم مجتمعنا: إياكم والسوق السوداء‘ - بقلم : عاهد رحال
-
‘الحق يمشي ولو على رمشي‘ – بقلم : هادي زاهر
-
خطاب ديني إصلاحي ‘العودة إلى المشرّع الواحد… وإحياء الدين من منبعه الأول‘ - بقلم: سليم السعدي
-
حكايات نضالية قروية - الكاتب والكتاب | استعراض وتقييم هادي زاهر
-
مقال: نحن أبناء هذه البلاد، عرب مسلمون قبل كل شيء - بقلم : الشيخ صفوت فريج رئيس الحركة الإسلامية
-
قراءة نقدية مُعَمَّقة – بقلم: رانية مرجية
-
مقال: النص القانوني المقترح في الكنيست الاسرائيلي لحكم الاعدام يجعل العقوبه اقرب الى ‘ اعدام قانوني ‘
-
‘ الوحدة العربية والسياسة: بين الواقع والمأمول‘ - بقلم : مرعي حيادري





أرسل خبرا